العيون الآن.
في العلاقات الدولية، لا تقاس الردود بالحجم ولا بالصوت، بل بالتأثير. وهذا بالضبط ما فعلته دولة الإمارات في تعاطيها مع الهجمة الإعلامية والسياسية التي شنها النظام الجزائري مؤخرا. فمن دون تصريحات نارية أو بيانات غاضبة، اكتفت أبوظبي بما تجيده: الدبلوماسية الهادئة، والاستثمار الذكي، وبناء التحالفات طويلة المدى.
منذ أن ارتفعت نبرة الخطاب الجزائري ضد الإمارات قبل أسابيع، اختارت أبوظبي الصمت، لكنها كانت ترد، خطوة بخطوة، من وراء الستار. الرد لم يكن في المحافل الإعلامية بل على الأرض، حيث تصنع الاستراتيجيات الحقيقية. ويمكن تلخيص الرد الإماراتي في ثلاث خطوات محورية، نقلت الرسالة بوضوح، وأظهرت أن الإمارات لا تنزلق إلى مهاترات، بل تعيد ضبط التوازن عبر أدوات التأثير الإقليمي.
أولا: استثمار استراتيجي في المغرب
العودة القوية للملف المغربي-الإماراتي جاءت بإعلان استثمارات إماراتية تفوق 13 مليار دولار في مشاريع بنية تحتية داخل المملكة المغربية، وهي خطوة لا يمكن عزلها عن السياق الإقليمي. فبينما يواصل النظام الجزائري عداءه السياسي والدبلوماسي تجاه الرباط، تأتي أبوظبي لتعزز تحالفها التقليدي مع المغرب، وترسل رسالة ضمنية: من يهدد حلفاءنا، سنقويهم لا نخذلهم. دعمٌ قُدّم في السابق عبر صفقات أسلحة، ويُجدد الآن عبر المال والمشاريع الكبرى.
ثانياً: تطويق الجزائر عبر الساحل
في توقيت دقيق، قام وزير دولة إماراتي بجولة مفاجئة في مالي، النيجر، وبوركينا فاسو، وهي دول دخلت مؤخراً في توتر متصاعد مع الجزائر. الزيارة حملت في طياتها وعوداً بالاستثمار والدعم الأمني والتقني، مما يعكس توجهاً إماراتياً جديداً لتعزيز نفوذها في الساحل الإفريقي، المنطقة التي تعتبرها الجزائر فضاءً حيوياً لتأثيرها التقليدي. وهنا لا يمكن تجاهل أن النيجر، التي دخلت في أزمة مفتوحة مع الجزائر، باتت تجد في الإمارات شريكاً أكثر موثوقية وفاعلية.
ثالثاً: الحليف الليبي يدخل على الخط
زيارة صدام حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، إلى النيجر لم تمر مرور الكرام. فعلاقة حفتر بأبوظبي قديمة ومتينة، وزيارته جاءت بدعم واضح من الإمارات في توقيت يُحرج النظام الجزائري الذي يعاني من انحسار نفوذه في الجنوب. ولا يخفى أن حفتر يمثل قوة عسكرية ورمزية لا يُستهان بها في الشمال الإفريقي.
هذه التحركات الإماراتية ليست ردة فعل آنية، بل ملامح لسياسة خارجية إماراتية تتسم بالهدوء والتخطيط. في المقابل، وجد النظام الجزائري نفسه محاصراً من جديد، إعلامياً ودبلوماسياً، ما انعكس ارتباكاً واضحاً في تغطية الصحف الجزائرية، مثل “الخبر” وغيرها، التي تحوّلت فجأة إلى الحديث عن الإمارات وكأنها الخصم المركزي.
الإمارات، إذن، لم ترد بالكلام، بل بالتحرك. لم تدخل في معارك وهمية، بل رسخت وجودها حيث تصنع المعادلات. وفي زمن لا تُقاس فيه الدول بحجمها بل بنفوذها، يبدو أن النظام الجزائري مطالب بإعادة النظر في أولوياته. إذ لا يكفي رفع الشعارات، ولا يكفي تصدير الأزمات. فالدول تُبنى بالتراكم، بالتحالفات، وبالقدرة على ضبط النفس عند الضرورة.
في النهاية، يتبين أن الدول التي تحترم نفسها، لا تدخل في سجالات عقيمة، بل ترد بالصمت المؤثر، وتعيد رسم الخريطة بأقل الكلمات وأكبر الخطوات.