العيون الان
《 الهوامش…》
– الهوامش ليست دائما مرأبا للتاريخ المتآكل ،أو مكبا لخردة البشر التي زحفت عليها جغرافيا الفوارق الطبقية، الهوامش عادة ما تختزل التفاصيل الدقيقة، التي يكمن داخلها وجه الحقيقة المكمل للرؤية العامة للمشهد الأصلي ، الهوامش هي تلك المساحات البيضاء النقية التي وسعت حروفنا وتواقيعنا لحظة إنتشاء في طقس غنوصي للقراءة ،تلك التواقيع التي عجز عن حملها بطن الكتاب، أو رحم الرواية، هي السطور المجزوءة أسفل الورقة لتفسير كلمات قاموسية تعد مفاتيح النصوص المشفرة ، هي المنابت الأصلية، والشتائل الأولى التي غدت سياجا من شوك على هامش مدينة الملح، و هنا عند خط تماس جدار الطوب مع رمال الكثيب في محراب “ولد الفيطح”، تقف أخر شموع ” دوار ذراعو ” شامخة أمام عاديات الزمان لتضيء إسحنكاك ليل الحي الطوبي الهادئ، هنا لمة شيوخ يفترشون تراب المنفى المالح، يخطون على وجه الكثيب عالما بلا خرائط ويمارسون لعبة طي الزمن ،فتغدو الساعات دقائقا وتغدو الدقائق ثوان ،هنا تُحَنّطُ عقارب الساعة ،وتَخْنُقُ الفصول نفسها ،هنا ما زال ” الشيخ يحظيه ” مزهوا بفتوحاته ” الظامية “وإنتصاراته أمام ضعاف الكهول، و ما زال القدر حليف البعرة في نصرها على العود. و بمسحة كف على وجه رقعة البيادق يصير عالم بلا خرائط مساحة طاهرة للتيمم ،ويصير الكثيب نفسه مركعا للصلاة، بسطاء هم كغفوة راع عند موقد النار ،أو كأحلامهم الدخناء ،هنا على الهامش عجوز غير معنية بدموع وصراخ حناجر المنتمين قسرا إلى مفتاح الخريطة باللون الأصفر، المتباكين على خارطة تنمية و رياء عمل جمعوي ،عجوز تحمل بطاقة تعريف لا تعني لها من الهوية شيء ،و لا تنتتمي فيها سوى لصورتها الشمسية وإسمها الثلاثي، كل ما تعرفه أنها ولدت “عام طياح النجوم ” ما زالت تسمي الأشياء بمسمياتها الجميلة ،وتؤرخ بأحداث عظام في تقويم ذاكرتها كان أخرها ” عام لكديم ” لم تنخ شموخها يوما إلا للسماء تستسقي قرابها القطر ،تحلب معزاتها بكرة وأصيل، وتفاخر النساء فحولة تيسها أمام غنيمات الحي .على الهامش هنا شيخ في عقده التاسع لم تنطلي عليه كذبة التقاعد من الحياة ،ما زال يشتهي أكل اللحوم بجنون ويدافع عن حق الكهولة في أكل ” لحم الفلكة “، وبنفس نهمه لأكل اللحوم مازال يشتهي النساء، ويتصيد زواج مؤقت من عانس ،ومازالت ” شرواطة ” عرافة الحي تحل عقد فرقعات الرصاص”الدون” في ماء “لكزانة” وتبشر العوانس بربيع من العرسان ،وتبارك البيع الكاسد ولازلن – العوانس- ينتظرن نبوءة شرواطة على رصيف الأمنيات ،يقاتلن عن حلم الزواج إلى أخر قطرة دم حيض تنزل من فروجهن، وتسكت ألم المخاض و مواء القطة الشرسة داخل الأحشاء ،وعلى الهامش يقفز الهامش على قانون الأحداثيات، ليأخذ شكل طابور من البؤساء يمتد من فندق شهرزاد حتى مقهى روما ،أولئك القادمين من شمال البوصلة بحثا عن تربة صالحة لزراعة الأحلام ،و الذين حفر أزميل الأنتظار أخاديدا على سحناتهم ،حين أدركوا ان واد الخليل لم يعد يسيل مساء بالسردين، وأن بروتوس كان يضاجع نساء المدينة في الخفاء، فأستبدلوا حلمهم بلفافة حشيش وحنفة من الشقاء على جادة الطريق، ينتظرون قدوم اللا شيء. وغير بعيد عن كل هذا بشرفة التاريخ المطلة على واد الملح؛ بمقهى السينما المهجور ،مازال صدى صوت ثورات لاعبي اليناصيب يسكن الخراب ،وهم يلعنون إله الإرقام، ويستعطفون الحظ ،ومع كل خيبة جديدة يحرثون الأمل بين الأعداد ،ليجعلوا من ورقة يناصيب الخاسرة بساط الطيران إلى عالم الأوردة الزرقاء ،هنا على الهامش في قدح الوادي أخر مراكب كلومبوس المنسي ،يرسو عاريا من شراعه ،يؤنسه نقيق ضفادع الكولينانين ورثة الخنوع ، ليوهمونا أن الحضارة مرت من هنا ذات زمن، لكن التاريخ كتب نفسه فوق ربوة التاريخ بركلة الباب هنا على الهامش لا بد أن تختار لعبتك جيدا من أجل البقاء لعبة البعرة والعود أو لعبة الأنتظار والقمار أو لعبة الفرار.
– خليل خليهن