المغرب ودول الساحل: تحولات الجوار الإفريقي بين الدبلوماسية الهادئة والعزلة الجزائرية

محرر مقالات14 يونيو 2025
المغرب ودول الساحل: تحولات الجوار الإفريقي بين الدبلوماسية الهادئة والعزلة الجزائرية

العيون الآن.

الحافظ ملعين / العيون.

 

تعيش منطقة الساحل الإفريقي لحظة فارقة في تاريخها الحديث، تتقاطع فيها التحولات السياسية الحادة مع صعود قوى جديدة وتراجع أخرى، بما يعيد رسم خارطة النفوذ والتحالفات الإقليمية. وفي خضم هذه الديناميات المتسارعة، يبرز المغرب كفاعل يتمتع برؤية استراتيجية بعيدة المدى، مقابل انكفاء الجزائر على خطاب تقليدي لم يعد مقنعا حتى لحلفائها المفترضين.

 

على امتداد عقدين من الزمن، عملت الرباط على تطوير مقاربة شمولية تجاه منطقة الساحل، تتأسس على التعاون جنوب–جنوب، والربط بين التنمية والأمن، إلى جانب ترسيخ الإسلام الوسطي كرافعة للاستقرار المجتمعي. وتعد كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو محطات مركزية في هذه السياسة، إذ وقع المغرب معها اتفاقيات ثنائية في مجالات التعليم الديني، وتكوين الأئمة، والزراعة، والبنية التحتية، فضلا عن إشراكها في مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري، الذي يعكس طموحا قاريا ببعد استراتيجي واقتصادي.

 

في المقابل، اختارت الجزائر مقاربة مغايرة، يغلب عليها الطابع الأمني الصلب، حيث راهنت على أذرعها الاستخباراتية ونفوذها السياسي أكثر من تركيزها على مشاريع تنموية ملموسة. وحين تصاعد الحضور المغربي في الساحل من خلال مبادرات عملية وهادئة، لجأت الجزائر إلى التصعيد السياسي، فقررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط في 2021، وأغلقت مجالها الجوي، محاولة عزل المغرب إقليميًا.

 

لكن الرياح لم تجري بما اشتهته القيادة الجزائرية. إذ وجدت نفسها، بعد سنوات من محاولات الهيمنة، أمام واقع دبلوماسي جديد، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، التي كانت تعد تقليديا ضمن الفضاء الموالي للجزائر، اختارت الابتعاد عن تأثيرها المباشر، وشكلت معا تحالف “AES” الذي يدير الظهر عمليا للجزائر، ويدق مسمارا جديدا في نعش نفوذها التقليدي جنوب الصحراء.

 

ورفض هذه الدول لوساطات جزائرية في أكثر من ملف داخلي، وغياب أي حماسة للتنسيق الأمني معها، يعكس تغيرا جوهريا في ميزان الثقة والفاعلية. الجزائر التي سعت لعزل المغرب، تجد نفسها اليوم محاصرة بجدار دبلوماسي يمتد من الجنوب إلى الشرق، وتواجه برودا متزايدا من العواصم التي اعتادت الاصطفاف معها.

 

إلى جانب المغرب، يبرز فاعل جديد في المشهد، الإمارات العربية المتحدة. حضور أبوظبي في الساحل، خصوصا في النيجر وبوركينا فاسو، لم يعد يقتصر على البعد التنموي أو الإنساني، بل يمتد إلى شراكات أمنية وعسكرية واضحة. هذا التطور فاقم من قلق الجزائر، التي باتت ترى في الإمارات عدوا منافسا مباشرا على النفوذ، في منطقة لطالما اعتبرتها مجالا حيويا لها.

 

غير أن الرباط لا تنظر إلى الحضور الإماراتي بعين القلق ذاته، بل تراه عنصرا مكمّلا لرؤيتها القارية، إذ يلتقي الطرفان في مقاربة مشتركة للاستقرار، قوامها التنمية، ومحاربة التطرف، واحترام السيادة الوطنية للدول. ومن هذا المنطلق، يغدو التنسيق المغربي-الإماراتي أحد مرتكزات السياسة الإقليمية الجديدة في الساحل، ويمنح مبادرات البلدين عمقا متعدد الأبعاد داخل الاتحاد الإفريقي.

 

ما بين حضور مغربي دبلوماسي مرن، وعزلة جزائرية تتسع، وصعود إماراتي متسارع، تبدو منطقة الساحل اليوم مسرحا لتغيرات استراتيجية متشابكة. المغرب، بخلاف بعض القوى الإقليمية، لم يتورط في دعم الانقلابات، لكنه لم يقطع قنوات الاتصال مع الأنظمة الجديدة، مفضلا منطق البراغماتية المتوازنة، بدلا من المواقف الحادة التي قد تفقده النفوذ على المدى الطويل.

 

إن التحولات الجارية في منطقة الساحل لا تنتمي إلى دائرة التغيرات العابرة أو الظرفية، بل تعكس تحولا بنيويا في فهم النفوذ الإقليمي، وانهيارا تدريجيا لنماذج الهيمنة التقليدية. في مقابل ذلك، يتبلور نموذج جديد للشراكات الإفريقية، قائم على الندية، وتبادل المصالح، واحترام السيادات الوطنية. وفي قلب هذه المعادلة المتجددة، يتموضع المغرب بذكاء استراتيجي، لا بوصفه طرفا يسعى للهيمنة، بل كفاعل موثوق يقدم البدائل الواقعية، ويصوغ الحلول بتأنٍ ومسؤولية، بعيدا عن منطق الإملاء أو فرض الشروط.

 

 

في خضم هذا المخاض الجيوسياسي، يتبين أن من يحسن قراءة التحولات لا يحتاج إلى صخب، بل إلى رؤية متبصرة واستثمار ذكي في الثقة والمصداقية. فبينما تتهاوى خطابات الهيمنة وتكشف محدودية الحسابات القديمة، يبرز المغرب كفاعل متّطزن، لا يلهث خلف الفرص بل يصنعها، مدفوعا بفهم عميق للواقع الإقليمي ومتغيراته. وفي وقت تزداد فيه عزلة من أراد عزل غيره، تتسع أمام من اختار الانفتاح والواقعية مساحات التأثير وصناعة الفارق. فالساحل اليوم لا يعيد فقط تشكيل خرائط النفوذ، بل يعيد أيضا ترتيب من يستحق أن يكون شريكا في المستقبل.

الاخبار العاجلة