العيون الآن.
يتأطر السياق السياسي الحالي ضمن ظرفية تضعنا على مشارف انتهاء الفترة الحكومية الحالية، مما يجعلنا على أعتاب انتخابات جديدة ستعرفها السنة المقبلة 2026، وهو السياق العام المحمل بالتطلعات، ولكنه على وجه النقيض مثقل بالخيبات وانتظارات ظلت مؤجلة، ولم يتحقق منها إلاّ النزر القليل، والنظرة لهذا الاستحقاق المستقبلي تطرح ضمن تراكم كل تفاصيل المعطيات المجمّعة، سؤالا أساسيا: هل يمكن للانتخابات التشريعية القادمة أن تحقق تغييرا ومنعطفا حقيقيا، أم أن الواقع أقل تفاؤلا من شرعية السؤال، ولن نكون سوى ضمن حلقة صغرى من رحى أكبر تنتج نفس اللوغاريتمات، لكننا لن نستعجل في الحكم، قبل أن نفكك جدليات هذه المعضلة، التي تنشدُّ لزوايا تتداخل فيها تحديات المنتخب مع أقطابٍ ثلاث: الدولة/ الأحزاب/ الواقع.
1. جدلية المنتخب وتمثلات الدولة عن ماهيته وأدواره.
يحمل المنتخب السياسي على العموم مساحة عمل وحركية ضمن سياق محدد سلفا، ولكن ليس تحديدا مرتبط أساسا بفلسفته السياسية وهويته الحزبية، بل قبل كل ذلك محكوم إحكاما شديدا بتمثلات الدولة عنه، ومن زاوية علم النفس السياسي، ترتبط هذه التمثلاث بتصورات الدولة عن سياسييها وما الذي يجب أن يقوموا به وما هو محرم عليهم سياسيا من منظورها، وهذا ما يجعل الدولة في أحد صورها عائق أمام إقلاع هذا المنتخب، فيفترض من المنتخب أن يكون همزة وصل بين الدولة والمواطنين ينقل مشاكلهم إلى الجهات المسؤولة، ويدافع عن مصالحهم ويعكس تطلعاتهم، فالمنتخب ليس محض وجاهة اجتماعية أو مجرد منصب شرفي، بل وظيفة سياسية بمسؤولية أخلاقية. عندما يتخلى المنتخب عن أدواره تتعمق أزمة الثقة بين المواطن والدولة. فالمنتخب في السياق المحلي (الأقاليم الجنوبية نموذجا) تقع على عاتقه مجموعة من المسؤوليات المضافة والتي يجب أن يكون على وعي تام بها، فهو لسان حال المواطن والمنوط به كسر جدار الإقصاء والتهميش، ورأب التصدعات التي تتشكل بين المواطن والدولة من داخل المؤسسات، فالمنتخب في الأقاليم الجنوبية مطالب اليوم بأن يتحرر من قيود “التمثيليات الشكلية”، وأن يكون لسانا جريئا للفئات المقصية والمهمة. ومقاومة التهميش لا تعني بأي حال الصدام مع الدولة، بل تهدف إلى إصلاح المنظومة من الداخل عبر الأداء الجاد، والقطع مع منطق الموقع مقابل الصمت، هذا التصور لا يتحقق إلاّ بعملية دفع إيجابي مزدوجة، من ناحية الدولة، لإرساء ممارسة ديمقراطية حقيقية، وهذا لا يستقيم سوى بالتحرر من النظر إلى المناطق الجنوبية باعتبارها مناطق ذات حساسية جيوسياسية بحمولة رمزية مشحونة، تصبح فيها الممارسة الديمقراطية المتجلي في الانتخابات حيث تصبح أداة مزدوجة:
ا. إبراز وترسيخ مشروعية الدولة.
ب. عامل محوري لضبط المجال السياسي والمجتمعي.
هذه الهندسة السياسية للدولة تتحول من خلالها الانتخابات إلى “إخراج سياسي” أكثر منها تدابير سياسية جادة لترسيخ تقاليد ديمقراطية حقيقية، وهو الشيء الذي أنتج نخبا غير فعالة، فاقدة لثقة المواطن من جدوى الانتخابات، وهو ما يحيلنا على الجانب الآخر المتعلق بالمنتخب بحد ذاته الذي عليه أن يجود من تصوراته عن نفسه وعن أدواره، ويدفع نحو ممارسة ديمقراطية جادة ومسؤولة، فإن لم تتحقق هذه النقلة الديمقراطية من أعلى، في ظل الإكراهات أعلاه، يمكن أن يتحقق الأمر صعودا من الأسفل، أي من نضال مؤسساتي حقيقي لهذه النخب لتجويد العملية السياسية.
2. جدلية المنتخب والأحزاب، برغماتية فجّة.
في البعد الثاني من هذه المعضلة، تأتي علاقة هذا المنتخب بالأحزاب، الهيئات والمؤسسات الوطنية التي تتأطر بها وعن طريقها الممارسة السياسية، وليس بعيدا من نقطة تحليلية أساسية وهي أن هذه الأحزاب تعاني ركودا عاما وتفقد هويتها السياسية، لحساب عملية تنميط سياسي تُآخذ عليها الدولة، غير أن هناك اختلالات بنيوية لا يتحمل مسؤوليتها سوى الأحزاب بحد ذاتها، فبدل تركيزها على الخوض في القضايا المجتمعية والاقتصادية الكبرى، ركزت على الصراعات الداخلية، بالإضافة إلى اعتمادها الشخصنة بدل البرنامج، وتركيزها في حملاتها السياسية على الأشخاص والزعامات بدل المشاريع، زيادة على غياب الديمقراطية الداخلية، المتمثلة في عدم تجديد القيادات الحقيقية، وهيمنة الأبقار المقدسة والزعماء الدائمين، بالإضافة إلى ارتهان بعض الأحزاب للسلطة بدل تمثيل الشعب والسعي لتحقيق مطالبه. كل هذا وضعنا أمام مشهد حزبي قاتم تولدت عنه أزمة ثقة بين المواطن والأحزاب.
إلاّ أنه وارتباطا بأرضية هذا المقال، وهي الأقاليم الجنوبية، فإن ضعف الحضور وضبابية الأدوار والأهداف ينصبغ بطابع المضاعفة، فالأحزاب لا تكاد تكون في هذه الأقاليم سوى مقرات تأشير لأخذ صفة الترشح ونيل التزكيات، لا بناء على تماهي أيديولوجي أو مشروعاتي بل بناء على حسابات أبعد بكثير عن معايير فلسفة الأحزاب السياسية والضوابط الديمقراطية. فحضورها هنا غالبا ما يكتسي طابعا وظيفيا وشكليا، يخدم شرعية الدولة أكثر مما يعكس دينامية سياسة حقيقية، فالأحزاب هنا تستعمل كغطاء قانوني لإعادة نفس الطبقة السياسية والاجتماعية. فهي لا تعدو أن تكون مجرد أدوات للتأثيث، وهذا ما يتعزز بمحدودية أدوات عمل هذه الأحزاب ضمن هذه البيئة:
– أحزاب بلا قواعد.
– الأعيان بدل المناضلين.
فالديمقراطية لا تبنى بأحزاب تؤدي وظيفة شكلية، ولا تحسن التأطير والترافع، فإذا كانت الدولة حريصة على أن تقدم الصحراء كنموذج ناجح فلا بد أن يكون للأحزاب دور حقيقي يتجاوز الوساطة نحو الفعل السياسي المسؤول.
3. المنتخب والواقع، وانتظارات المواطن الحالم.
في ظل هذه الشبكة المنسوجة بشكل معقد وغير مخطط له، لا يمكن أن تكون تطلعات المواطن عموما، ومواطن الأقاليم الجنوبية على الخصوص، إلاّ تطلعات حالمة، وبالتالي فكل خطاب طموح وعقلاني وجاد من طرف هذه النخب المنشودة (على قلتها أو انعدامها للأسف الشديد) يجب أن تنشد للواقع أكثر من إكراهاته، وأن تركز مجهودات الفهم والنضال السياسي المؤسساتي على الارتباط بالمواطن وواقعه أكثر من محاولة السير بسير المعطيات العامة للدولة وللأحزاب كما هي حاليا قبل إصلاحها، فلا إصلاح خارج المؤسسات، ولكنه إصلاح يتطلب القطع مع الممارسات الحائدة عن المنطق السياسي السليم، هي جدلية معقدة، نعلم ذلك، ولكن فك طلاسمها هو ما يجعل حامل الصفة “نخب” حاملا لها بجدارة واستحقاق. وهذه التحديات، تنضاف لها بيئة هذا الإشكال، المتعلقة بالأقاليم الجنوبية التي تعرف حساسيات مضاعفة، تجعل مشاعر الخذلان السياسي والعزلة التمثيلية ذات نتائج وخيمة، يجب أن يتحمل مسؤوليتها الجميع. إن مسؤولية المنتخب، خاصة في المناطق الجنوبية حيث السياق أكثر تعقيدًا، لا تقتصر على التسيير التقني أو الوساطة الشكلية، بل تشمل واجب الترافع الجريء، والمقاومة المؤسساتية للصمت، والدفاع عن انتظارات الناخب داخل المجالس، وخارجها عند الحاجة. فالشرعية لا تُمنح فقط بالصندوق، بل تُبنى بالفعل والتأثير. في هذا السياق، تتحقق المعادلة الديمقراطية فقط حين تتحمل الدولة مسؤوليتها في إصلاح المنظومة وتوسيع صلاحيات المنتخب، ويُمارس المنتخب دوره السياسي بشجاعة ومسؤولية، ويواصل المواطن مساءلته ومراقبته. غير ذلك، سنبقى ندور في حلقة التمثيل الصُوري، والتدبير المحدود، والثقة المنهارة، وفيما يخص الناخب يجب عليه أن يعي حجم المسؤولية الملقاة عليه فهو ليس ضحية دائمة، بل شريك في إعادة إنتاج نفس الواقع، ما لم يُقرر أن يتحول من متفرج سلبي إلى فاعل واعٍ كل صوتٍ واعٍ هو لبنة في بناء التغيير، تمامًا كما أن كل صمتٍ عن الرداءة مشاركة غير مباشرة في استمرارها فالصمت لا يُسقط الفاسدين، والحياد لا يصنع التنمية. حين تصوّت بوعي، فأنت لا تختار شخصًا فقط… بل تختار شكلاً للواقع الذي تريد أن تعيش فيه.
في الأخير، وكجامع قول لما سبق، فالأقاليم الجنوبية تمتاز ببنية سياسية مختلفة حيث تتقاطع فيها عوامل التاريخ، والمجتمع والسيادة والنزاع، فهي بيئة مشحونة ذات رمزية خاصة ، لكنها أيضا على إيقاع التحكم في النخب، وضعف المردودية الانتخابية. في بيئة كهاته لا يكفي قراءة القوانين لفهم ما يجري فيها بل لا بد من الإنصات لصوت الأرض والناس، والعلاقة غير المكتوبة فالصحراء ليست مجالا ترابيا بل فضاء نضالي تاريخي ظل دائما مرتبطا بقضايا هذه المنطقة ، حيث كانت خزانا للمقاومة ، قد عرفت نضالات تقودها زعامات وطنية وقبلية، تحرجنا دائما مقارنتها مع النخب السياسية الحالية التي تمثل الصحراء، فلا قياس مع شساعة الفوارق.