العيون الان
حسن الزواوي
باحث في العلوم السياسية
يسائل مسار تشكل الحكومة المتعثر والشروط السياسية المصاحبة مسلسل مأسسة التناوب الديمقراطي و مصداقية النتائج الانتخابية، فقد تميزت هذه المفاوضات بالتعقيد و تأثرت بضبابية المشهد الحزبي الذي يصعب فيه التمييز بين الأحزاب بناء على مرجعيات إيديولوجية. إن أهم مؤشرات أزمة الأحزاب المغربية هو ضعف التزامها الإيديولوجي و عدم امتلاكها لتصور واضح إزاء المشاركة في الحكومة، وهو ما ساهم في جعل مسار المفاوضات بين الأحزاب يشبه مسار صخرة سيزيف بسبب شروط المشاركة، وبذلك ارتقت هذه الملابسات بالأزمة الموسومة بـ ”بالبلوكاج الحكومي ” إلى محطة مفصلية يجب الوقوف عليها من أجل استخلاص عدة ملاحظات تشكل مداخل لفهم و تفكيك أبعاد أزمة تشكيل الحكومة، وهو ما سنحاول مقاربته من خلال التركيز على عنصرين تحليلين حتى نتمكن من فهم و استيعاب دروس ”البلوكاج الحكومي”.
أولا : هل الحل الدستوري فعال لإنهاء أزمة ” البلوكاج الحكومي ” ؟
لقد شكلت أزمة تشكيل الحكومة تمرينا سياسيا لمساءلة الدستور الجديد للمملكة وحدوده، فكشفت جانبا من الفراغ الدستوري في تدبير العلاقة بين السلطة الملكية ومؤسسة رئيس الحكومة، حيث ترك الفصل 47 الباب مفتوحا أمام التأويل الذي يسير في اتجاه تكريس تفوق المؤسسة الملكية ، فكان اللجوء الملكي إلى الفصل 47يدخل ضمن الاختصاصات الدستورية للملك؛ حيث يُعَيَّن رئيس الحكومة من الحزب الذي يتصدر نتائج الانتخابات التشريعية، بموجب هذا الفصل. وبالرغم من تغيير طريقة تعيينه إلا أن الإصلاح الدستوري أبقى على مفاتيح اللعبة السياسية بين يدي الملك وذلك بإعطائه حق اختيار الشخص المناسب من الحزب الفائز بالانتخابات، كما أن الدستور خول للملك تقاسم سلطة تعيين وإعفاء الوزراء مع رئيس الحكومة.
إن سلطات الملك تفوق بشكل موسع سلطات رئيس الحكومة لأن طبيعة الحكم القائم بالمغرب هي ملكية تنفيذية قاعدتها الذهبية ” العرش المغربي ليس أريكة فارغة “، مما يدل على أن الملكية الدستورية وفق الصياغة الغربية مختلفة عما هو معمول به في المغرب. ذلك ما أكدته في الماضي تصريحات الملك الراحل الحسن الثاني عندما قال: ” إن لكل شعب أخلاقه ومعتقداته وآرائه ولا وجود لطريقة حكم عالمية. إذا التزمنا بالمعنى الدقيق للتعبير فإن ملكية دستورية هي ملكية قائمة على دستور قدم إلى الشعب فقبله عن طواعية “.
إن التمعن جيدا في صياغة الفصل 47 يفضي بنا إلى الإقرار بأنه بقدر ما يحدد طرق تعيين رئيس الحكومة إلا أنه ظل مفتوحا مع ذلك أمام مجموعة من التفسيرات المتناقضة و المتضاربة، ولاسيما عندما تم إبعاد بنكيران و تعيين سعد الدين العثماني مكانه. فمن أهم أوجه قصور مضامين هذا الفصل بصفة خاصة، و الدستور بصفة عامة، هو كونه لم يتطرق صراحة للحلول الدستورية الممكنة في حالة فشل تشكيل الحكومة. لذلك فإن فعالية اللجوء إلى هذا الفصل، و الدستور عموما، في حل أزمة ” البلوكاج الحكومي ” ترتبط بمدى قدرتهما على استباق الحلول و احتواء هذا النوع من الأزمات الذي يعتبر محكا لفعالية الإصلاح الدستوري لسنة 2011. لأنه كما عبر عن ذلك سابقا دومنيك روسو ” ” السياسة لا تموت بالدستور ” بل العكس يعتبر هذا الأخير امتدادا لها لأنه، أي الدستور، هو الذي قد يعطي معنى للسياسة و يساهم في مأسسة ممارسة السلط وفق تأويل يجعل من قواعد الدستور المكتوب مرجعية لعمل المؤسسات السياسية. إن التعلق بالدستور من أجل حل إشكالية ”البلوكاج الحكومي ” يشكل اليوم المرحلة الحاسمة في ترسيخ الاعتقاد بضرورة الالتزام بقواعد الشرعية الدستورية، حيث تتأسس الممارسة السياسة في إطار احترام مقتضيات الدستور.
بيد أن هذا الأمر لا يمنعنا من الإقرار بأن فهم الأسباب التي تقف خلف إبعاد بنكيران غير قابلة للاختزال في قراءة قانونية محضة للفصل 47 بل الأمر أعمق من ذلك، ويتعلق بطبيعة اللعبة السياسية بالمغرب التي تبقى رهينة الكواليس و ما يتحكم فيها من قوانين غير مكتوبة، و التي من غير الممكن فهمها بدون تفكيك ميكانيزمات العلاقة الجدلية بين القانون و السياسة. هذه العلاقة التي لم تساهم إلا في تعقيد مسار تنزيل دستور 2011 و إخضاعه لتأويل محافظ لم يسرع من وتيرة دمقرطة النظام السياسي المغربي.
ثانيا : البراغماتية السياسية لحزب العدالة و التنمية
كان تعاطي هياكل و أعضاء حزب العدالة و التنمية مع قرار إبعاد بنكيران متسما ببراغماتية سياسية متجسدة في قبولهم تعيين سعد الدين العثماني خلفا له مع الحفاظ على نفس الشروط التي تسببت في تعثر المفاوضات.
لذلك يجب الإشارة إلى أن حزب العدالة و التنمية تبنى منذ قبوله بشروط اللعبة السياسية في بداية التسعينات إستراتيجية البراغماتية السياسية التي انعكست إيجابا على أداء مرشحي حزب العدالة والتنمية، مثلما فرضت عليه تبني مبدأ التدرج في المشاركة وولوج الحقل السياسي. حيث نجد تفسيرا لذلك من خلال انتخابات 2002 عندما فضل الحزب عدم تغطية جميع الدوائر الانتخابية مفضلا الاكتفاء بتغطية 56 دائرة من مجموع 91 دائرة. وذلك تفاديا ” لفوز انتخابي في جل الدوائر تكون نتائجه السياسية سلبية على الحزب” حسب تعبير عبد الإله بنكيران . و لقد أسهمت هذه الواقعية السياسية في تمكين الحزب من تجاوز مجموعة من الأزمات لاسيما تلك التي أعقبت أحداث 16 ماي بالدار البيضاء سنة 2003، وعلى بناء توافق ضمني مع المؤسسة الملكية التي يعترف حزب العدالة والتنمية ببعدها الديني؛ أي “إمارة المؤمنين”.
لقد حاول حزب العدالة و التنمية أن يكيف تصوراته السياسية و طرق اشتغال أجهزته الحزبية مع إكراهات الحقل المؤسساتي و متطلبات السوق السياسية، الأمر الذي ساعده على اختراق هذه الأخيرة و تصدر قائمة النتائج الانتخابية في عدة مدن كانت بالأمس معقلا انتخابيا لأحزاب الكتلة الديمقراطية مثل الإتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال، هنا لا بد من الإشارة إلى أهمية سياسة القرب التي نهجها حزب العدالة و التنمية من خلال حضوره الاجتماعي المكثف بالأحياء الفقيرة أو الهامشية لهذه لمدن. فالحزب مدعوم في هذا المجال بذراعه الدعوي والتعبوي، وهنا نقصد حركة التوحيد والإصلاح التي سهلت على مرشحي العدالة والتنمية اختراق هذه الأحياء عن طريق الخدمات الاجتماعية المقدمة للمحتاجين. ويعتبر هذا المؤشر جديرا بالتحليل لشرح أسس الإستراتيجية الانتخابية لحزب العدالة و التنمية، ثم كذلك فهم أحد أهم العوامل المفسرة لفوزه الانتخابي.
لقد كان رهان حزب العدالة و التنمية هو إعطاء صورة سياسية عن الإسلامي السياسي المعتدل مخالفة للصورة التي ارتبطت بجماعة العدل و الإحسان، و ذلك من خلال تأكيدهم على أهمية الدور السياسي للمؤسسة الملكية. و هذا ما ترجمته العديد من تصريحات بنكيران على غرار قوله بأنه » لا يتقاسم السلطة مع أحد.. الذي يحكم البلاد هو جلالة الملك، وهو من يملك السلطة وهو رئيس الدولة.. وأنا كرئيس حكومة أمارس صلاحياتي.. والمؤسسة الملكية كلها يحكمها شخص واحد وبها مخاطَب واحد بالنسبة لنا هو جلالة الملك.. وهو الذي يتصل بنا ليبلغنا بنيته وآرائه، ونحن كذلك نتصل بجلالته». تتضح لنا جيدا براغماتية حزب العدالة و التنمية في الشكل التي يرسم به علاقته بالمؤسسة الملكية و كذلك الطريقة التي يفسر بها دوره السياسي ”كمدافع عن العرش”، لأن الهدف الأساسي بالنسبة لهذا الحزب هو القطع مع تلك التصورات السياسية التي تقرن بين الإسلام السياسي و أسلمة المجتمع ثم إحداث ثورات سياسية من أجل الوصول إلى السلطة ، و الرغبة في ممارسة أنشطته السياسية و الحزبية مثله مثل باقي التنظيمات الحزبية الأخرى.
لذلك يجب فهم المنطق المحدد لقبول أعضاء حزب العدالة و التنمية لشروط اللعبة السياسية و المؤسساتية انطلاقا من طبيعة انعكاسات ذلك على الاعتراف بهم كفاعلين سياسيين. لذا فإن بلوغ هذا الهدف كان قائما على تصور براغماتي لمفهوم المشاركة السياسية يخول لحزب العدالة و التنمية الفرصة لاستيعاب قواعدها و التأقلم مع إكراهاتها. ذلك لأن الحقل السياسي هو حقل تنافسي بامتياز يتطلب أهلية سياسية من طرف الفاعلين لكي يتمكنوا من التموقع فيه بشكل يسمح لهم بصنع القرار أو التأثير على صنعه. لهذا لا يمكن تحليل و فهم لماذا تبنى حزب العدالة و التنمية براغماتية سياسية و قيم معتدلة خارج هذه الإطار الذي يعرف بالحقل السياسي.
إن الإقرار بأهمية البراغماتية السياسية و الالتفاف حولها تعكسه أيضا كيفية تمسك حزب العدالة و التنمية بمبدأ المشروعية الانتخابية طيلة كل مراحل المفاوضات التي أجراها بالأخص مع حزبي التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لقد حاول حزب العدالة أن يستثمر سياسيا فوزه الانتخابي من خلال تأكيده المتواصل على أنه حاصل على تأييد شعبي و لا يمكنه أن يقبل بشروط تتناقض مع المبادئ التي حصل بفضلها على هذا التأييد. ويوضح هذا الأمر إلى حد ما مكانة الفوز الانتخابي داخل الإستراتيجية السياسية لحزب العدالة و التنمية و كذلك طرق تحويله لهذا الفوز إلى رأسمال سياسي يقوي من قدرته أيضا على التموقع داخل المؤسسات الدستورية و هنا نخص بالذكر مؤسستي الحكومة و البرلمان.
بيد أن التساؤل الذي قد يشكل مادة خام للباحثين في مجال العلوم السياسية هو إلى أي حد سيظل هذا التمسك بالمشروعية الانتخابية و طرق استعمالها السياسي متوافقا مع خصوصية النظام السياسي المغربي القائمة على الاعتراف بالملك كأمير للمؤمنين و ممثل للشعب بموجب مشروعية دينية و تاريخية؟
ويظل الجواب عن هذا السؤال رهين بمستقبل التعايش السياسي بين حزب العدالة و التنمية و المؤسسة الملكية.