العيون الآن
طوق نجاة للجزائر..
يتسم موقف المغرب من قضية الصحراء في الخطب الملكية بالثبات على مدار العقود، باعتبارها مرجعًا سياسيًا يتناول أجوبة المغرب ومواقفه الرسمية التي يرد بها على الجزائر وباقي الأطراف المتدخلة بشكل مباشر أو غير مباشر في هذا الموضوع الحساس. في تناوله لهذه المواقف والردود، يعتمد جلالة الملك محمد السادس سياسة متوازنة تعكس رغبة المملكة في تسوية سلمية للنزاع، مؤكدًا انخراط المغرب في إحلال السلم وتجنب التوترات الإقليمية مع الجزائر. وقد عبر الملك في جل خطاباته عن استعداد المملكة لمد يد الصداقة والتعاون مع الجار الشرقي، في محاولة لإعادة بناء الثقة وفتح الحدود المغلقة منذ عام 1994، مع الجزم بأن موضوع الصحراء المغربية غير قابل للابتزاز السياسي.
ولزيادة الضغط على المغرب، خططت الجزائر لمحاربته على المستوى الاقتصادي الداخلي وعلى جبهة السياسة الخارجية. على المستوى الداخلي، ولتأزيم الأوضاع الشعبية والاقتصادية بالمغرب، قررت الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة بشكل أحادي في غشت 2021، وقطع أنبوب الغاز، وحظر المجال الجوي على الطيران المدني المغربي، وفرض التأشيرة على المواطنين المغاربة. أما على الجبهة الخارجية، فقد استعمل حكام المرادية سياسة الابتزاز السياسي بالخروج العلني في دعمها السياسي والدبلوماسي والعسكري لجبهة البوليساريو، لتشكيل عناصر ضغط مستمرة تستنزف المغرب في هذا النزاع المستمر، الذي تستغل فيه قضية الصحراء كورقة ضغط سياسي لتحقيق أهداف جيوسياسية بعيدة المدى، أهمها الوصول إلى منفذ على المحيط الأطلسي لتوريد الغاز من الصحراء الشرقية والحديد من “غار جبيلات”. هذه الأطماع القديمة معروفة لدى صناع القرار الأممي والمغربي، وتظهر وتختفي على شكل مناورات سياسية في مواقف سياسية جزائرية تكتيكية.
إن مطالب تقسيم الصحراء المغربية من أهم المخرجات التي تسعى إليها الجزائر، وسبق للرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة أن اقترحها بشكل مباشر على المبعوث الأممي جيمس بيكر في هيوستن سنة 2001، وأعادت الجزائر رسمياً طرح فكرة التقسيم للمرة الثانية في رسالة إلى مجلس الأمن سنة 2002 من قبل ممثلها الدائم آنذاك عبد الله بعلي، وأخيرًا للمرة الثالثة مع المبعوث الأممي الحالي، ستيفان دي ميستورا، خلال زيارته للجزائر سنة 2024.
الطموحات الجزائرية للوصول إلى المحيط الأطلسي ترتبط مباشرة بأهداف اقتصادية واستراتيجية تتعلق بفشلها في تسويق مواردها الطبيعية، لا سيما الغاز، النفط، وخامات الحديد في مناجم غار جبيلات، الذي يعد أحد أكبر مناجم الحديد غير المستغلة في العالم. هذه الموارد تواجه تحديات اقتصادية ولوجيستية ضخمة بسبب عدم توفر منفذ بحري مباشر لها على المحيط الأطلسي، مما يؤثر سلباً على كفاءة إنتاجها وتصديرها ويزيد من تكلفة النقل بشكل كبير، إلى الحد الذي قد يتجاوز في بعض الحالات قيمة الأرباح المحققة.
هي موارد وثروات طبيعية مهمة لكنها محاصرة وبدون منفذ على الأطلسي، بحيث من المفترض أن يتم تصديرها عبر عدة مراحل، عبر شبكة من الطرق البرية المكلفة جدًا وغير المؤمنة إلى موانئ عبر البحر المتوسط، مما يزيد من كلفة النقل ويضعف تنافسيتها مقارنة بالدول الأخرى التي تملك موانئ استراتيجية قريبة من الأطلسي أو مباشرة عليه. وهذا أحد أسباب فشل الجزائر في اختراق العمق الإفريقي، وأحد أسباب افتعال أزمة “الكركرات” التي رد عليها المغرب بتأسيس ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يتميز بقدرات واسعة على استيعاب السفن الكبيرة وتصدير المواد الخام واستيراد البضائع، مما سيعزز مكانة المغرب كجسر بحري بين إفريقيا وأوروبا والعالم.
في حوار تاريخي للملك الراحل الحسن الثاني مع مجلة Jeune Afrique سنة 1985، سأله الصحفي عن أهمية منجم الحديد “غار جبيلات”، فأجابه الملك بشكل ذكي كعادته: “تندوف في حد ذاتها لا تهمني… إذا لم يمر هذا الحديد عبر المغرب، فلن يتمكن من المرور إلى أي مكان”.
على نفس منوال جواب والده في حواره مع جون أفريك، أكد جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى 49 للمسيرة الخضراء، بوضوح أن “هناك من يستغل قضية الصحراء للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي”، مما يفضح الأطماع الجزائرية التاريخية بالسعي إلى الوصول للمحيط الأطلسي، لتحصيل مكاسب جيوستراتيجية بالواجهة الأطلسية على حساب الوحدة الترابية للمملكة المغربية. وبنفس الحزم والوضوح، شرح الملك أن المغرب لا يمانع في دعم دول الساحل وحتى انخراط الجزائر في “المبادرة الأطلسية” لتسهيل ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي في إطار الشراكة والتعاون، الذي من شأنه توفير فرص اقتصادية لتنمية هذه الدول، وتعزيز التكامل الإقليمي والحد من التوترات في شمال وغرب أفريقيا، بدلاً من تأجيج النزاعات الإقليمية واستغلال قضايا مثل الصحراء لتحقيق مكاسب جغرافية.
بالانضمام إلى “المبادرة الأطلسية”، يمكن للجزائر تحقيق طموحاتها في الوصول إلى المحيط الأطلسي تحت السيادة المغربية، مما سيمنحها القدرة على نقل مواردها، كالبترول والغاز، بشكل أسرع وأقل تكلفة، مما سيسرع عمليات التصدير نحو الأسواق العالمية، ويقلل من اعتماد الجزائر على دول أخرى للوصول إلى موانئ بحرية استراتيجية. كما أن انخراطها في المبادرة الأطلسية سيجعل منها دعامة للتعاون الاقتصادي مع دول الساحل والمغرب، حيث يمكن تطوير مشاريع مشتركة لتحسين البنية التحتية وتطوير الصناعات المحلية وتعزيز التجارة والاستثمار الإقليمي. ومن خلال التعاون مع المغرب ودول الساحل، ستتمكن الجزائر أيضًا من المساهمة في جهود تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وهو ما يحد من تهديدات الجريمة المنظمة والإرهاب والهجرة غير الشرعية، ويعزز دورها كلاعب في الأمن الإقليمي.
يمكن أن يؤدي التعاون بين الجزائر والمغرب في إطار المبادرة الأطلسية إلى إحياء دور اتحاد المغرب العربي، وهو ما سيحقق مصالح كبيرة للجانبين، ويدعم فكرة التكامل والتعاون بين دول شمال أفريقيا، ويحقق استقرارًا إقليميًا ويفتح منافذ اقتصادية جديدة، تعود بنفع اقتصادي من شأنه تحسين الأوضاع الاجتماعية والخدمات العامة والبنى التحتية الداخلية، والتنمية المحلية، وينعكس على رفاهية الشعب الجزائري.
اقتراح المملكة المغربية للحكم الذاتي سنة 2007 وتوالي الدعم الدولي لهذه المبادرة فتح بابًا كبيرًا لخروج الجزائر بشكل مشرف يحفظ ماء وجهها، لكنها استكبرت وعاندت حتى صارت تحصد نتائج فشلها السياسي على المستوى الدولي. ومع سياسة اليد الممدودة للمملكة المغربية، قدم جلالة الملك محمد السادس، في خطاب الذكرى 49 للمسيرة الخضراء، طوق نجاة لإخراج الجزائر من دوامة أطماعها الجيوستراتيجية ودعوتها للانخراط في “المبادرة الأطلسية”، التي من شأنها تقديم فرص للجزائر للانتقال من استراتيجيات الخلاف السياسي نحو تعاون مثمر يخدم المنطقة بالكامل، ويفتح آفاقًا جديدة للازدهار المشترك.
محجوب البرش السباعي