العيون الان
بنعبد الفتاح محمد سالم
هيرست كولر.. استلام المهام وبدء الجولات المكوكية
بعد عدة أشهر من اقتراح اسمه لشغل منصب المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس المكلف بالنزاع الصحراوي خلفا للدبلوماسي الأمريكي كريستوفر روس، ورغم التأخر المسجل بخصوص استلامه مهامه رسميا بسبب ما وصفته تسريبات إعلامية بـ”الاعتبارات الأمنية” التي تتعلق بصفته كرئيس سابق لألمانيا، دشن هيرست كولر نشاطه بجولتين ميدانيتين، أولاهما خص بها أطراف النزاع، منتصف شهر أكتوبر المنصرم، بينما خصص جولته المكوكية الثانية للقاء ممثلين عن العديد من الدول والهيئات القارية المعنية بالنزاع، حيث عقد في الأسابيع الأخيرة لقاءات مع كل من رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، مفوض السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي إسماعيل شرقي، بالإضافة الى رئيس دولة رواندا بول كاجامي، بصفته الرئيس الدوري المقبل للاتحاد الإفريقي, كما التقى بمسؤولة السياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيديريكا موغوريني، والمفوض الاوروبي للتعاون الدولي والمساعدة الانسانية ومواجهة الازمات كريستوس ستيليانيديس، الى جانب المفوض الاوروبي المكلف بالسياسة الاوروبية للجوار ومفاوضات التوسعة يوهانس هان، عدا عن لقائه بوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
لقاءات تكشف عن المقاربة الجديدة التي يبدو أن كولر يحاول اعتمادها، والمتمثلة في تمكين المنظمتين القاريتين من الاضطلاع بأدوار مستقبلية تهم تدبير ملف النزاع، وتأتي استجابة لقرارات مجلس الأمن الأخيرة التي لطالما نادت بضرورة دخول أطراف النزاع في مفاوضات مباشرة، في إطار الجهود الرامية لإطلاق جولة خامسة من المفاوضات، ينتظر أن تجمع طرفي النزاع المغرب وجبهة والبوليساريو، حيث تقرر نقل الاجتماع، الذي كان مبرمجا مع قيادة البوليساريو في بمخيمات تيندوف نهاية الشهر الجاري إلى برلين، ما يوضح دعم ألمانيا لجهود رئيسها السابق في المهمة الأممية الموكلة إليه, وربما تطلعها للعب دور ما بخصوص ملف النزاع الصحراوي في المرحلة المقبلة.
حالة الجمود السياسي المستمر ثم التصعيد المتبادل
لقاءات واجتماعات تحضيرية لجولة جديدة من المفاوضات ينتظر أن تعقد في ظل “حالة تباعد وجهات النظر” التي لطالما عبر عنها المبعوثون الأمميون السابقون بدء بوزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر ومرورا بالدبلوماسي الهولندي بيتر فان فالسوم ثم الدبلوماسي الأمريكي كريستوفر روس، بسبب تمسك كل طرف بوجهة نظره الخاصة إزاء مقاربة حل الصراع الذي عمر أكثر من اللازم، ففي حين يطرح المغرب خطته لمنح الإقليم حكما ذاتيا، تصر جبهة البوليساريو على تمسكها بحق تقرير المصير ، أما قرارات مجلس الأمن الصادرة نهاية كل شهر أبريل من السنة – الموعد السنوي المخصص لنقاش الملف – فتجدد تكرارها لنفس المطالب بـ”ضرورة دخول الطرفين في مفاوضات مباشرة بغرض التوصل لحل سياسي، عادل ومتوافق عليه”.
أما حاليا فتشهد المنطقة أجواء من التوتر بين الطرفين منذ مطلع الشهر الحالي، على خلفية معاودة البوليساريو إرسالها لدورية أمنية الى معبر الكركارات الحدودي بالتزامن مع تنظيم رالي سيارات “موناكو- دكار” واجتيازه لنفس المعبر، كما تأتي في ظل وضعية جيوسياسية حساسة بالمقارنة مع جولات المفاوضات السابقة، حيث عرف الملف العديد من التطورات الميدانية، الاقليمية والدولية التي تميزت بالتصعيد العسكري والاعلامي المتبادل بين الطرفين.
فمنذ غلق ملف تحديد الهوية على خلفية إعلان نتائج الطعون التي خرجت بها بعثة المينورسو سنة 1999م، ثم “أزمة الرالي” سنة 2001م مطلع الألفية الحالية التي هددت خلالها البوليساريو بإعلان الحرب أثناء عبور رالي “باريس – دكار”, شهد الملف حالة من الجمود طوال عقد ونصف من الزمن، قبل أن تندلع أزمة الكركارات صيف 2016م، والتي استمرت حتى نهاية شهر أبريل سنة 2017م، بالتزامن مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بمهام تمديد بعثة المينورسو لمدة سنة أخرى.
فميدانيا عاشت المنطقة طوال ثمانية أشهر على وقع التصعيد العسكري، حيث أقدم الطرفان على مجموعة من الاجراءات الميدانية، بدء الدوريات والحواجز التي أقامتها البوليساريو في منطقتي الكركارت والكويرة، بعد اتهامها المغرب بالعمل على تغيير الوضع الناجم عن اتفاق الهدنة الموقع بين الطرفين سنة 1991م، على إثر إعلانه لتنظيم حملة لمكافحة عصابات التهريب في منطقة الكركارات العازلة، ثم بدء أشغال تعبيد مقطع الطريق الرابط بموريتانيا، وإدخال عمال ومعدات الشركة المكلفة به مرفوقين بعناصر من الدرك المغربي الى المنطقة الحدودية، ليعمل الطرفان على تدشين مجموعة من الاجراءات العسكرية التصعيدية كتنظيم المناورات والتدريبات وتحريك القطع العسكرية الثقيلة وحشد المعسكرات في المناطق القريبة من الكركارات، وعلى طول الجدار العازل.
إعلاميا سيعمد الطرفان طوال أشهر إلى إعلان حالة التأهب القصوى في صفوف قواتهما أكثر من مرة، بالإضافة الى تسريب أخبار لوسائل الاعلام المحسوبة عليهما حول الحشود والتدريبات والتحركات العسكرية قرب الجدار العازل الذي يعتبر بمثابة خط للهدنة, كما سيتم تداول تهديدات بالعودة الى الحرب على ألسن السياسيين والاعلاميين المحسوبين على الطرفين، قبل أن يعمد كلا الجانبين الى توظيف ورقة محاربة التهريب وتجارة المخدرات العابرة للحدود، حيث أعلن الطرفان في أكثر مناسبة عن حجز كميات من المخدرات وتفكيك عصابات والقبض على مهربين قادمين من الجانب الآخر من الجدار العازل.
جهد دبلوماسي حثيث وأسماء جديدة تبرز في الواجهة
وبالعودة الى جهود المبعوث الأممي هيرست كولر لبحث امكانية عقد جولة جديدة من المفاوضات، فلا شك أنها ستشكل امتحان عسيرا له وللأمين العام للهيئة الأممية أنطونيو غوتيريس، خاصة بالنظر الى الفشل الذي لحق مساعي المبعوثين الأمميين السابقين في التوصل الى حل ينهي النزاع الصحراوي، وبالنظر أيضا الى التوتر الذي طبع علاقة الأمين العام الاممي السابق بان كيمون ومبعوثه الشخصي كريستوفر روس مع المغرب، في الأشهر القليلة التي سبقت مغادرتهما منصبيهما، بعد تحفظ المغرب على بعض المقترحات التي قدمت أثناء فترتهما، خاصة ما يتعلق بتوسيع صلاحيات بعثة المينورسو لتشمل مراقبة وضعية حقوق الإنسان في الإقليم.
أما على مستوى المغرب الذي ينزل بكل ثقله في الآونة الأخيرة في المنظمات القارية والدولية للتأثير على القرارات المتعلقة بالنزاع الصحراوي، فيحاول أن يقطع مع سياسة الكرسي الشاغر التي لطالما فسحت المجال لتحرك جبهة البوليساريو منفردة خاصة في منظمة الاتحاد الافريقي، ما مكنه من استعادة مقعده في المنظمة القارية، وينفتح على المجال الافريقي الأنغلوسكسوني، المحسوب تاريخيا على المعسكر الداعم للجبهة، حيث برزت أسماء جديدة من التكنوقراط المحسوبين على القصر، على رأسهم وزير الخارجية ناصر بوريطة، بالإضافة الى محسن الجزولي كوزير منتدب مكلف بالتعاون الإفريقي، المعين بموجب التغيير الحكومي الأخير, ما يعزز دور المؤسسة الملكية في تدبير الملف.
وبخصوص البوليساريو فستكون جولة المفاوضات المرتقبة هي الأولى بعد تسلم ابراهيم غالي لزعامة البوليساريو، حيث يعمل منذ استلامه دفة قيادة الجبهة على محاولة إثبات جدارته بمنصب الأمين العام، بإبراز نمط جديد مخالف لنمط سلفه الراحل محمد عبد العزيز، والظهور بمظهر القائد الميداني، تارة بالتواجد في الجبهات الأمامية وتسريب صوره مع مقاتلي الجبهة في الكركارات والكويرة، وأخرى بالأشراف على التدريبات والمناورات العسكرية المنظمة شرق الجدار العازل، بالإضافة الى إطلاق التصريحات التصعيدية والتأكيد على استعداده لخوض غمار الحرب.
وضع إجتماعي وإنساني مُلِحّ
اجتماعيا يشهد المغرب والجزائر حراكا اجتماعيا لا زال مستمرا منذ اندلاع ما بات يعرف بـ”الربيع العربي” مطلع العشرية الحالية، بالموازاة مع تدشين البلدين لمجموعة من الاجراءات الاقتصادية التقشفية من قبيل رفع الدعم الحكومي عن المحروقات والعديد من المواد الأساسية، ما يؤثر بشكل مباشر على الوضع المعيشي للصحراويين سواء المتواجدين في الإقليم أو في مخيمات اللاجئين بتيندوف- جنوب غربي الجزائر، الأمر الذي يُفْتَرَض أن يخلق ضغطا إضافيا على المغرب والبوليساريو على حد سواء، ففي حين لا يخفي قادة البوليساريو حالة الامتعاض والسخط المنتشرة بين الصحراوايين عموما، وفي الأوساط الشبابية على وجه الخصوص من استمرار وضعية الصراع الحالية، بات خروج المظاهرات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي أمرا مألوفا في كلا الجانبين، حيث تحاول البوليساريو توظيف ورقة استفادة ساكنة الاقليم من ثرواتها في الهيئات الدولية، أما بالنسبة للمغرب فلا يزال متمسكا بورقة إحصاء ساكنة المخيمات التي من شأن تفعيلها أن تؤثر على الحصص الغذائية المقدمة لمخيمات اللاجئين الصحراويين من طرف الهيئات الأممية المعنية كمنظمة غوث اللاجئين وبرنامج الغذاء العالمي.
أما انسانيا فقد باتت حالة (اللا سلم واللا حرب) ترسخ وضع الشتات الذي تعيشه معظم الأسر الصحراوية، بعد أكثر من أربعين سنة من اللجوء و المعاناة التي يقاسيها أهلنا في مخيمات اللاجئين في تيندوف -جنوب غرب الجزائر، والذين يعيشون في ظروف طبيعة صعبة تشهد في هذه الأيام من السنة بردا شديدا تقترب درجته من الصفر، في حين يعانون الأمرين جراء ارتفاع درجة الحرارة في فصل الصيف حيث تصل الى 54 درجة، عدا عن تعرضهم لخطر انهيار بيوتهم الطينية بسبب السيول والفيضانات الناجمة عن الأمطار الموسمية التي تشهدها منطقة الحمادة، في ظل غياب تام لأي بنية تحتية أو تجهيزات من شأنها تخفيف تلك المعاناة، في الوقت الذي تعمد فيه الجهات المانحة والهيئات المسئولة عن توفير المساعدات الانسانية للاجئين الى تقليص الحصص الغذائية المخصصة لهم.
بارقة أمل وسط العتمة
على العموم نرجو أن لا تكون جولة المفاوضات الجديدة عقيمة كسابقاتها، وأن تشكل فرصة للقطيعة مع أسلوب “حوار الطرشان” وسياسة “الهروب الى الأمام” الذي لطالما اعْتُمِدَ في محطات المفاوضات السابقة، حيث لم ينتج سوى وضعية سلم هشة سرعان ما تتأزم عند كل احتكاك بين الطرفين، مكرسا لوضع اجتماعي واقتصادي شاذ وموبوء، لا زال يستغل من طرف أغنياء الحرب الذين ركبوا على الصراع وراكموا الثروات، واستفادوا من ريع الأطراف السياسية على حساب استمرار معاناة عموم المواطنين البسطاء.
لكن ورغم طول أمد الصراع وتكاليفه الباهظة على المنطقة الصحراويين وعلى المنطقة عموما، فقد نجح الطرفان في الحفاظ على الطابع السلمي لأكثر من ربع قرن من الزمن، عبر الالتزام المسجل باتفاق وقف إطلاق النار الموقعة بينهما سنة 1991م، رغم حدوث بعض الانتهاكات البسيطة له بين الفينة والأخرى، ما يبقى الأمل قائما في قدرة مسئولي وقيادات أطراف النزاع على تجاوز الخلافات العالقة وإنهاء النزاع الذي عمر أكثر من اللازم.
فبالنظر الى التحديات الكبرى التي تواجهها دول وشعوب المنطقة، من قبيل محاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية اللذان ينخران بنية المجتمعات المغاربية، وكذا تحقيق التنمية والاقلاع الاقتصادي لبلدان المنطقة، وحتى الاندماج القاري، المطلب الاقتصادي والسياسي الملح الذي يشكل استمرار النزاع الصحراوي حجر عثرة أمامه، في ظل وضع دولي واقليمي غير مستقر، يشهد تحولات سياسية جارفة تهدد أوضاع دول وشعوب المنطقة جميعا، حيث تعرف بلدان الجوار المغاربي حروبا أهلية وانهيارا لأنظمة الحكم، ما يفرض على أطراف النزاع الصحراوي أن ترجح صوت العقل وتعمل على تجاوز الخلافات وأن تعمل على تهيئة الظروف لإحياء مشروع المغرب الكبير الذي من شأنه أن يحقق التكامل الاقتصادي لأعضائه و يذيب كل الخلافات بينها.