العيون الان
من لا تراث له لا هوية له
بقلم الدكتور: محمد مولود أمنكور
ومتخصص في التراث والتنمية السياحية
في الآونة الأخيرة نهاية القرن العشرين لوحظ اهتمام كبير بالتراث الثقافي، باعتباره ركيزة أساسية من ركائز التعامل مع فكر العولمة، خاصة في المجتمعات النامية ومنها المجتمعات العربية، كما أن لهذه المجتمعات رصيدًا، ومخزونًا تراثيًا كبيرا؛ منه المادي واللامادي، لذا يعتبر التراث من أسباب الحفاظ على الهوية الثقافية، ومعرفة الماضي ومقارنته بالحاضر والنظر إلى المستقبل، ومنذ نهاية الحروب العالمية الأولى والثانية، التي بسببهما قد دمرت العديد من المآثر التاريخية، التي كانت شاهدًا على فترات سابقة من الحضارات الإنسانية, لهذا قام المسؤولون الأوروبيون بإدراك أهمية الحفاظ على هذا التراث من الفناء والزوال، مما دفعهم إلى التخطيط لإعادة بناء، وترميم ما دمر من مباني تاريخية، وفق طابعها المعماري الخاص، كما يعتبر التراث أحد أهم عناصر الجذب بالنسبة للسياحة العالمية والمحلية. في عصر تعتبر فيه صناعة السياحة من أهم الصناعات العالمية التي أصبحت تهتم بها الدول، لما تحققه من انتعاش اقتصادي مباشر وغير مباشر.
يطلق التراث على مجموع نتاج الحضارات السابقة التي يتم توريثها من السلف إلى الخلف وهي نتاج تجارب الإنسان ورغباته وأحاسيسه سواء أكانت في ميادين العلم أو الفكر أو اللغة أو الأدب، بل يشمل جميع النواحي المادية، والوجدانية للمجتمع من كل القيم، والابتكارات، والوسائل التي يستخدمها في حياته، وكيفية تعامله مع الظواهر.
إن التأكيد على استيعاب التراث لا يعني الغوص في ترف أمجاد الماضي العلمية، بل وجب علينا أن نحسن استخدامه في توجهاتنا التخطيطية ،بالصيغة التي نعيد بها ارتباط ماضينا بحاضرنا ثم بمستقبلنا، كما يقال (من لا تراث له لا هوية له)، ومن هذه المقولة وجب علينا المحافظة عليه والتشبث بالهوية، فقيمة الأثر أن نستخرج من الماضي صوراً ورموزاً غنية عند توظيفها في حاضرنا المعاش، فقد كان بعض مفكرينا الأوائل موسوعيين في نتاجاتهم العلمية والادبية، والبعض منهم جمع بين العلوم الصرفة والمعرفة اللغوية ومعرفة الطب والفلك….. الخ, فضلاً عن المواهب الفنية كالموسيقى والشعر والغناء.
لكن يبقى الفارق بين تفاعل العلوم في الوقت الحاضر ضمن حدود نتائج البحوث فحسب وبين تفاعلها الماضوي ضمن حدود إتقانها هو ما نطلق عليه(بالاختصاص الدقيق )الذي أصبح سمة من سمات العصر الحالي، ونظراً لصلة التراث بحركة المجتمع وتطوره وتبدل عناصره عبر مسيرته التاريخية، فالتراث هو كيان يحمل في طياته ما هو حي متفاعل مع الحياة والواقع، وهذا لا يتم إلا في ضوء إعادة قراءة وتحليل ما قدمه المفكرون الأوائل من إسهامات علمية وفكرية تمنحنا فرصة أفضل للارتقاء بمكانة مجتمعنا المجتمع بين المجتمعات المعاصرة. فالمجتمعات الإنسانية وإن تباعدت زمناً عن بعضها، فإنها تتشابه في ردود أفعالها بخصوص أساليب وأنماط حياتها.
كما يقول الأستاذ إبراهيم الحيسن:”ان التراث Patrimoine يتمثل في ما خلفه الأجداد والآباء للأبناء والأحفاد من أشياء مادية ومعنوية، لكن التراث في معناه الثقافي العام ما تركه الأسلاف من شواهد ومنجزات في مختلف الحقول الفكرية والأثرية والتاريخية1″. والتراث كلمة عربية فصيحة أصلها من مادة ورث ورثًا وأورثًا، وهي تعني ما تركه الإنسان لورثته الذين أتوا من بعده كما جاء في قوله تعالى “وتأكلون التراث أكلا لما 2″. أما التراث فهو ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرة من الماضي ونهجا يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل.
لذا فالتراث يعني كل مخلفات الماضي لتراكمات حضارية تنتقل عبر الاجيال عن طريق الابداع واللغة والأفكار والسلوكات التي تصدر عن الاشخاص، وقد نعتبره ظاهرة إنسانية فلكل أمة تراثها وماضيها فهو يختلف من منطقة الى منطقة فالتراث للجميع اينما كان تواجده لأنه يعيش فينا لاننا سنتركه للأجيال القادمة.
ويقول محمد عابد الجابري: ” إن اللغة التي يقرأها القاري العربي في التراث وفي ذات الوقت يقرأ بها التراث ….. اللغة العربية التي ظلت هي هي منذ أربعة عشر قرنا أو يزيد تصنع الثقافة والفكر دون أن تصنعها الثقافة والفكر فبقيت بذلك الجزء الأكثر تراثية في التراث، لنقل الجزء الأكثر أصالة ومن هنا قدسيتها، فاللغة العربية تحتوي قارئها لأنها مقدسة في وجدانه لأنها جزء من مقدساته 3 “.
ويقول فردريك معتوق: “ان علاقة العربي بتراثه هي علاقة عضوية حيث هويته القومية برمتها تتغذى من التراث لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حد سواء فتعلقه بما يختزنه ماضيه من انجازات علمية وفلسفية وفكرية وأدبية أشد من تعلق أي إنسان آخر بتراثه شرقا وغربا، من الممكن أن نبتر الإنسان الإفريقي أو الأسيوي عن تراثه من دون أن يموت حضاريا ،أما الانسان العربي إن قطعته عن تراثه فتكون قد حكمت عليه بالموت 4 “.
وهكذا فكل مجتمع من المجتمعات لا بد له أن يكون من الذين يحافظون على هذا التراث الغنى، بكل مكوناته وما يزخر به، فتبعا لهذه التعاريف يمكن أن نقول :إن التراث هو كل مخلفات الماضي التي وصلتنا حتى الآن ووجب علينا الحفاظ عليها بكل ما استطعنا من إمكانيات، فهذا واجبنا الأخلاقي اتجاهه لأنه يربطنا بالماضي. وقد أوردنا مجموعة من التعريفات التي قدمها بعض الباحثين، و التراث لدينا شامل ولا يختص في مفهوم معين بل هو تعريف بماضي الشعوب، وكيفية طريقة عيشها، وما كانت تقوم به من أعمال من قبل، فبدراسة الماضي سيمكننا بناء المستقبل في إستراتيجية اقتصادية في الدمج في التنمية السياحية، وتنموية تخدم بالأخص الإنسان الذي هو أساس ومحرك أي تنمية كانت فالحديث عن التراث هو الحديث عن التاريخ والحديث عن التاريخ هو الحديث عن الإنسان صانع الأمجاد والحضارات.
يعني من هذا أنه لا يمكن الحديث عن التراث بدون الإنسان، وحينما نتكلم عن التراث فإننا نتكلم عن التقاليد و العادات وعن الآثار وكل ما رسمته أمة ما عبر التاريخ، إنه الشاهد الدال على متى كانت و كيف كانت و كيف ستكون؟
ونحن اليوم نقف على مخلفات الأجداد، الذين تركوا لنا تراثا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأن هذا التراث يعتبر ميراثا وصلنا على مر العصور والأزمان، و ما زال ماثلا في حياتنا متمثلا في القيم والعادات والمأكل والملبس، وكلما أنتجته عقول الأجيال السابقة، إن التراث بحاجة ماسة إلى الصون والحفاظ من الضياع وعدم تركه في الخزائن وفي عقول الشيوخ والمسنين، لأنه بمجرد موت واحد منهم تموت معه حقيقة، ولقد صدق المفكر المالي أمادو هامباتي با Amadou Hampate ba حين قال “عندما يموت شيخ مسن في إفريقيا فمعنى ذلك أن مكتبة احترقت 5 “.
لهذا يجب علينا اذًا أن نأخذ كل ما سينفعنا في حاضرنا، ونقوموا باستغلاله حسب الزمان دون المساس بجوهريه أو تحريفه عن أصله، لنترك للأجيال القادمة، ثقافة وتراثا مستمدا من واقع الحياة ممزوجا بالقديم والجديد.
1- ابراهيم الحيسن: التراث الشعي الحساني” العناصر المكونات” المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الاولى، مراكش،2004، ص.19
2- سورة الفجر: الاية، 19.
3- محمد عابد الجابري: نحن والتراث، الطبعة السادسة، الناشر المركز القافي العربي، بيروت، 1993، ص. 22.
4- فريدريك معتوق: سيوسيولوجيا التراث، شبكة المعاريف، الطبعة الأولى، بيروت، 2010،ص.21.
5- الدوى حمادة: الأعراف والتقاليد، “ثقافة الصحراء” مقوماتها المغربية وخصوصياتها، ندوة لجنة القيم الروحية والفكرية، مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية، الرباط 26ـ27 ذو الحجة 1422 هـ / 11ـ12 مارس، 2002، ص. 298.