العيون الآن
الحافظ ملعين _ العيون
من البيعة إلى الحكم الذاتي: شيوخ القبائل الصحراوية يعيدون صياغة معادلة الانتماء من قلب العيون
في لحظة وطنية جامعة، احتضنت مدينة العيون يوم السبت 21 يونيو 2025 ندوة وطنية كبرى بعنوان “من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل”، نُظمت تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، وعلى هامش المنتدى البرلماني للتعاون الاقتصادي بين المملكة المغربية ودول مجموعة “سيماك”.
الندوة التي نظمها مجلس المستشارين ومجموعة العمل الموضوعاتية المكلفة بتقديم الاستشارة بشأن قضية الوحدة الترابية، لم تكن مجرد فعالية رسمية تضاف إلى رزنامة الأنشطة الدبلوماسية البرلمانية، بل شكلت لحظة رمزية كثيفة الدلالات، أعادت طرح سؤال الصحراء من زوايا متعددة: التاريخ، الشرعية، الانتماء، المستقبل.
تميزت الندوة بحضور شخصيات سياسية ومؤسساتية وازنة، على رأسها رئيس مجلس المستشارين، وأعضاء من الحكومة، ووالي جهة العيون الساقية الحمراء، ورؤساء المجالس المنتخبة، وبرلمانيون، وفاعلون مدنيون وإعلاميون، بالإضافة إلى شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية الذين شكّل حضورهم تأكيدا على البعد الشعبي والاجتماعي للقضية الوطنية.
وسط هذا الزخم، ألقى الشيخ سيدي حسنا الإدريسي، عضو مؤسسة شيوخ القبائل الصحراوية، مداخلة شكلت ذروة الندوة، لما حملته من حمولة تاريخية وسياسية وثقافية، أبرزت الروابط العميقة التي تربط قبائل الصحراء المغربية بالدولة المركزية، مجددة التأكيد على البيعة كعقد سياسي وديني واجتماعي ضارب في أعماق التاريخ.
توقف الإدريسي في مداخلته عند دور مؤسسة شيوخ القبائل الصحراوية، التي تأسست في ظل الاستعمار الإسباني، لكن بثقل اجتماعي ومصداقية متجذرة، حيث تم انتخاب أعضائها من طرف قبائلهم سنة 1973، ما منحها تمثيلية حقيقية عبرت من خلالها عن رفض الانفصال والتشبت بالوحدة الترابية.
وأكد أن هذه المؤسسة إلى جانب الجمعية العامة الصحراوية، مثلتا الجبهة الاجتماعية التي واجهت المخططات الانفصالية، مستندتين إلى عهد البيعة، الذي لم ينقطع بين أبناء الصحراء وملوك الدولة المغربية، منذ العصور القديمة إلى البيعة المجددة للملك محمد الخامس رحمه الله سنة 1956.
ولعل أبرز ما استحضره الإدريسي في خطابه، هو التحركات التاريخية لأعيان الصحراء في سياقات مفصلية، مثل مبادرة السيد خليهنا ولد الرشيد ومجموعة من رفاقه، الذين التحقوا بالمغرب في ماي 1975، لتجديد البيعة والقطع مع المشروع الاستعماري الإسباني في عهد فرانكو.
كما أحيا لحظة مؤثرة من تاريخ الولاء الوطني، حين تقدم المرحوم خطري ولد السعيد الجماني على رأس وفد من أعيان الصحراء لتقديم البيعة لجلالة الملك الحسن الثاني بمدينة أكادير، حيث قلده جلالته سلهام الرضا، في دلالة رمزية بليغة على العطف الملكي والثقة في أبناء الصحراء.
في مداخلته، لم يكتف الإدريسي بسرد التاريخ، بل ذهب إلى تفكيك الحاضر ورصد رهانات المستقبل، مؤكدًا أن مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس، ليس فقط عرضًا دبلوماسيًا بل تتويجًا لمسار تاريخي من الارتباط المتين.
واعتبر أن المشروع ينسجم مع روح البيعة ومع مبادئ المشاركة الفعلية، وهو ما تجسده اليوم مشاركة أبناء الصحراء في المؤسسات الوطنية، وإدارتهم الفعلية لشؤونهم المحلية، واستفادتهم من مشاريع التنمية والبنى التحتية، في نموذج تنموي متكامل يشكل استثناء إقليميا.
لم يغب عن مداخلة الشيخ الإدريسي البعد الإنساني للقضية، حيث وجه نداء إلى المجتمع الدولي، مطالبا بالتعجيل بإنهاء معاناة المحتجزين في مخيمات تندوف، وفتح باب العودة لأبناء الصحراء المغرر بهم، حتى يساهموا بدورهم في بناء مغرب موحد ديمقراطي وتنموي.
وأعرب عن أسف القبائل لما آلت إليه أوضاع آلاف النساء والشيوخ والأطفال في المخيمات، محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية، في ظل خطاب انفصالي مغلق، يتغذى من الأوهام ويُعطل أي أفق للحل.
الرسالة التي صدحت بها مداخلة شيوخ القبائل لم تكن موجهة فقط للحضور، بل للعالم بأسره، ومفادها أن الانتماء الوطني لقبائل الصحراء ليس ملفا سياسيا بل حقيقة مجتمعية راسخة، وأن كل محاولة لفصله عن المغرب هي عبث بالتاريخ وتجاهل للواقع ورفض لحل توافقي يجد دعمًا دوليًا متزايدًا.
كما حملت الكلمة إشارات واضحة إلى أن مؤسسة شيوخ القبائل ما تزال تحتفظ بدورها التعبوي، وبقوتها الرمزية، في التعبير عن موقف الساكنة، والدفاع عن مغربية الصحراء بصوت العقل والتاريخ.
تظهر ندوة العيون أن قضية الصحراء لم تعد موضوعا مغلقا، بل حالة حوار دائمة ومنفتحة، وأن الربط بين التاريخ والمستقبل، بين شرعية البيعة وآفاق الحكم الذاتي، هو ما يشكل اليوم الجواب المغربي المقنع، المتوازن والواقعي.
لقد عبرت مداخلة الشيخ سيدي حسنا الإدريسي عن ما يمكن تسميته بـ “ضمير الصحراء الوطني”، الذي لا يساوم في السيادة، ولا يقبل بالانفصال، ويصر على أن الحل الوحيد هو داخل البيت المغربي، تحت سيادة الملك، وبرعاية دولة لم تبخل على أبنائها في الجنوب بكل سبل العناية والتقدير.