العيون الآن
بقلم، د. أسلامة أشطوط، باحث في الدراسات الصحراوية والإفريقية..قراءة أدبية في رواية “الطلح لا يخطئ القبلة” للأستاذ بوزيد الغلى.
تُعدُّ رواية “الطلح لا يخطئ القبلة” للأستاذ بوزيد الغلى من الأعمال الأدبية المميزة التي تلامس أعماق الروح الإنسانية وتغوص في أبعاد الصراع الداخلي للإنسان، لا سيما عندما يكون أمام تحديات تتعلق بالهوية والانتماء. وتبقى الرواية محورية في تسليط الضوء على صراع الفرد بين الطاعة والتمرد، وبين السعي وراء الحقيقة وقيود الانتماء لجماعة معينة. هي رحلة فكرية ونفسية عميقة، تقدم لنا بطلا يكشف عن ذاته تدريجيا، في مواجهة تحديات سياسية واجتماعية معقدة.
قراءة في العنوان: “الطلح لا يخطئ القبلة”.
يشكل عنوان الرواية “الطلح لا يخطئ القبلة” مدخلا دلاليا محوريا لفهم الثيمة العامة التي نسج منها الكاتب بوزيد الغلى عمله السردي، فهو عنوان مركب، موغل في الرمزية، مشحون بإيحاءات ثقافية، دينية، وجودية.
فالطلح، كشجرة تنبت في عمق الصحراء، ترمز إلى الرسوخ والثبات والصبر في مواجهة قسوة المناخ والوجود. هي ليست مجرد نبات عابر، بل تمثل في المخيال الجمعي لأبناء الصحراء والعالم القروي رمزا للانتماء والجذور والكرامة. فهي الشاهد الصامت على سيرورات الحياة اليومية، وعلى تقلبات الزمن. ولعل “الغلى” حين اختار “الطلح” لم يكن يفكر في النبات في حد ذاته، بل في دلالاته الثقافية العميقة، إذ يختزل معاني الاستمرارية، الصمود، والارتباط بالأرض والذاكرة.
أما “القبلة”، فهي الوجهة التي يتجه إليها المسلم في صلاته، لكنها في السياق الرمزي للرواية تتجاوز بعدها الديني إلى بعد فلسفي ووجودي: إنها تمثل البوصلة الداخلية، الوجهة الحقيقية للروح، والسعي نحو الحقيقة واليقين. وهي في المقابل تعني الاختيار الحر والمستقل للوجهة، بدل التبعية العمياء لجماعات أو معتقدات مفروضة.
والملاحظ أن تركيب العنوان جاء بصيغة نفي: “لا يخطئ”، وهو ما يفتح المجال للتأويل، فالكاتب لا يقول إن “الطلح يصيب القبلة”، بل يستخدم نفي الخطأ، وكأنما يريد أن يشير إلى حالة من الصفاء الفطري، والبصيرة النقية، حيث إن الكائن المتجذر في الطبيعة، مثل الطلح، لا يحتاج إلى بوصلة خارجية أو توجيه سلطوي. هو، بفطرته، يدرك طريقه ويتجه نحو قبلة المعنى والحقيقة دونما انحراف.
كما أن العنوان يفهم على أنه مقارنة ضمنية بين البطل (المتمثل رمزيا في الطلح)، وبين الجماعة التي حاولت أن تفرض عليه قبلة أخرى، قبلة الجماعة، التي لا تتيح له اختيار وجهته الذاتية. فالعنوان يكرس فكرة أن الحرية الحقيقية تنبع من الداخل، من اتصال الإنسان بجذوره وفطرته، لا من انتمائه القسري لتنظيم أو فكرة أو أيديولوجيا.
الطلح، في هذه القراءة، ليس شجرة فقط، بل هو البطل نفسه، ذلك الكائن الذي جرب الانتماء، فاختنق، ثم عاد إلى ذاته الأولى، فوجد أن قلبه هو القبلة الحقيقية. هو الطلح الذي صمد في وجه العواصف، ورفض أن يكون تابعا. اختار أن يصلي خارج الصف، لكنه لم يخطئ القبلة.
بهذا المعنى، فإن عنوان الرواية ليس فقط مفتاحا تأويليا للنص، بل هو رؤية فلسفية كاملة، تلخص في جملة واحدة عمق التجربة الإنسانية التي يمر بها البطل. إنها دعوة للإنصات إلى الصوت الداخلي، إلى الفطرة واليقين، بدل الركون إلى سلط الجماعة التبعية العمياء. فـ”الطلح لا يخطئ القبلة”، لأنه لا يتبع أحدا… بل يتبع يقينه الخاص.
شخصية الراوي: رحلة من الطاعة إلى التحرر
البطل هو شخصية تبحث عن اليقين، تعيش في حالة من التماهي مع جماعة دينية متشددة تفرض عليها قيودا صارمة. تبدأ الرواية بتقديمه كفردٍ ملتزم بالطاعة، يعتقد أن الولاء للجماعة سيمنحه الأمان الداخلي ويحقق له الفهم الكامل للوجود. ومع مرور الوقت، تتسارع التناقضات الداخلية، ويبدأ الراوي في التشكك في مسلمات الجماعة، فيكتشف أن هذا الالتزام ليس الطريق الأوحد للسلام الداخلي.
نجد أن الرحلة النفسية للراوي لا تقتصر فقط على الصراع مع المبادئ التي فرضتها عليه الجماعة، بل أيضا مع ذاته. يبدأ في التساؤل حول هويته الشخصية ومصداقية ما كان يعتقده عن الحق والصواب. هذه الرحلة، التي يسودها الشك والتمرد الداخلي، تُمثّل تطورا في الشخصية من الانغلاق الفكري إلى السعي نحو التحرر الفكري والنفسي. من خلال هذه التحولات، يطرح الغلى تساؤلات فلسفية حول الحرية الفردية ودور الجماعات في صياغة هوية الفرد.
الجانب النفسي والفكري للصراع الداخلي
يتعامل الغلى ببراعة مع الصراع النفسي لشخصية الراوي. هذا الصراع ليس مقتصرا على محاور دينية أو اجتماعية فقط، بل يمتد ليشمل الهوية الشخصية والمستقبل. في البداية، يشعر الراوي بالضياع والبحث عن الأمان في الجماعة، ولكن مع مرور الوقت، يواجه شعورا متزايدا بالاختناق الداخلي بسبب القيود المفروضة عليه. يتجلى هذا الصراع في مشاهد عديدة تُظهر تردده بين الإيمان بالجماعة وبين الرغبة في اكتشاف نفسه بعيدا عن تلك القيود. هذا التحول في الشخصية يخلق دلالات قوية حول كيف يمكن للإنسان أن يتحرر من التقاليد المغلقة ويخوض مغامرة البحث عن الذات.
الجماعة والقيادة: “أبو النواجر” والنفاق السياسي
تُعتبر شخصية “أبو النواجر” أحد المحاور الأساسية في الرواية، حيث يُظهر بوزيد الغلى كيف يمكن أن يُستخدم الدين والسياسة للهيمنة على الأفراد. “أبو النواجر” يمثل القيادة المتشددة التي تستغل مبادئ الدين كوسيلة للسيطرة والتأثير، ورغم مظهره القوي كمخلص للأفكار، إلا أن الرواية تكشف عن انتهازيته وعدم صدقه في المواقف الحاسمة. هذا التناقض بين الصورة التي يحاول ترويجها والواقع الذي يعاش في خلفية تلك الجماعة يثير تساؤلات حول صحة الأهداف التي تروج لها الجماعة، ويظهر مدى هشاشة السلطة الزائفة التي يمكن أن تسيطر على الأفراد باسم الدين.
الهوية والانتماء: بين الصراع والتحرر
في قلب الرواية، تبرز قضية الهوية باعتبارها الصراع الأعمق الذي يعانيه الراوي. ففي البداية، يُمثل الانتماء إلى الجماعة بالنسبة له مصدرا للأمان واليقين، إلا أن هذا الانتماء يتحول مع مرور الوقت إلى عبء، حيث يقيد تفكير الراوي ويحرمه من قدرته على اكتشاف ذاته الحقيقية. الرواية تسلط الضوء على هذا الصراع بين الولاء للجماعة والانتماء للذات، لتقدم بذلك صورة حية لمعاناة الفرد في عالم تسيطر عليه الجماعات المتشددة. البطل في رواية الغلى ليس مجرد شخصية فكرية، بل هو تمثيل للأشخاص الذين يعانون من ضياع الهوية بسبب الانتماء إلى أفكار أو جماعات تفرض عليهم قيودًا.
البنية السردية والرمزية الأدبية
من الناحية السردية، تُظهر الرواية تطور الشخصية في سياق زمني تدريجي، حيث يبدأ الراوي بالإيمان المطلق في الجماعة ثم يتطور ليصبح شخصية متسائلة، تطرح أسئلة وجودية حول قيم الجماعة ومبادئها. الانتقال الزمني السلس يعكس التحولات الداخلية للراوي بشكل يُتيح للقارئ الغوص في أعماق الشخصية وتفكيرها. كما أن الأسلوب الأدبي الذي يعتمده “الغلى” في روايته يتسم بالرمزية والعمق، حيث يدمج التأملات الفلسفية في سياق سردي مشوق. استخدامه للغة غنية بالأفكار والتأملات يجعل القارئ يشعر وكأنه يتابع رحلة شخصية تبحث عن معنى في عالم مليء بالتناقضات.
صفوة القول، إن “الطلح لا يخطئ القبلة” هي رواية ذات أبعاد فلسفية عميقة، تتناول صراع الإنسان مع ذاته ومع الجماعة التي ينتمي إليها. هي رحلة بحث عن الهوية والحرية، وتطرح أسئلة حول دور الدين والسياسة في تشكيل الفكر البشري. من خلال السرد المتمكن واللغة الرمزية، يقدم “بوزيد الغلى” رواية لا تقتصر على كونها مجرد حكاية عن التمرد، بل هي دعوة للتفكير في القيم التي نؤمن بها والطريقة التي نختار بها أن نعيش حياتنا بعيدا عن ضغوط الجماعات والأيديولوجيات.











